سؤال يبحث عن إجابة، لماذا يكون الموت مبهما؟! في معرض الاجابة أقول
يكون الموت مبهما؛ لكي أعمل الخير في كل ساعات حياتي، قال الشاعر:
تؤمّل في الدنيا طويلا ولا تدري اذا جنّ ليل هل تعيش الى الفجر، إذا
كنت أعلم أنني أموت بعد خمسين عاما، قبل موتي بيوم واحد أتوب الى
الرحمن، ولكن عندما يكون الموت مبهما، يجب ان أترقّب الموت في كل
لحظة، يجب أن أكثر من ذكر هادم اللذات، وأكون على أهبة الاستعداد
لذلك السفر الطويل، ولا يكون الاستعداد الا بعد تحصيل الزاد قبل
حلول الأجل، لماذا؟ لأننا في الغالب نطلب الدنيا والموت يطلبنا،
ولابد ان نوفي كل منهما ما يستحق، وأفضل الاستحقاق ان تكون الدنيا
خير معين لنا في الآخرة، لا ان نكون مثالا لما قاله الشاعر: يا من
بدنياه اشتغل قد غرّه طول الأمل، الموت يأتي بغتة والقبر صندوق
العمل.
ربما الانسان يتغافل عن ذكر الموت فينغمس بملذات الدنيا وغرورها، وبهذا الانغماس يتولّد عنده الغرور ويظن أن الموت يأتي لغيره ولا يحل بساحته يوما من الايام، ولكنه ينصدم بالموت على حين غرّة وهو لم يوفّر مستلزمات النجاة، لعل الأموال والزوجات والاولاد والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة لا تسعفه بعد الموت، وانما الذي يسعفه فقط وفقط العمل الصالح، فانه الذخيرة الحقة للإنسان حينما يلاقي ربّه بعد الممات.
ولكي نحوّل لذاتنا الى لذات دائمية وليست مؤقتة بالدنيا الدنية المشوبة بالمشاكل والصدمات، ولكي نحوّل أموالنا وأزواجنا وأولادنا الى قرة عين لنا في الدنيا والآخرة، لابد ان نكثر من ذكر هادم اللذات الدنيوية وكما قال الرسول الأعظم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، فقيل: يا رسول الله فما هادم اللذات؟ قال: الموت، فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم له استعدادا) بحار الانوار للمجلسي: ٨٢ / ١٦٧ / ٣. نعم اننا بإكثارنا ذكر الموت انما نهدم اللذات المهلكة ونحوّلها الى لذات ناجية، هذا ما يفعله العقلاء من القوم فانهم وكما وصفهم الرسول أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أما غيرهم فقد غرّتهم الحياة الدنيا وأنستهم ذكر الله تعالى، وهو ما سيؤول الى مصيرهم الأسود الذي ينتظرهم بعد ان يطرق الموت أبوابهم فجأة وهم في طغيانهم يعمهون.
الاكثار من ذكر الموت له فوائد جمة، فانه يضفي على الانسان هالة القداسة ويشذّب نفسه من الموبقات والذنوب، وكلما همّ الانسان لارتكاب معصية فانه وبمجرد ذكره للموت ومصيره المحتوم بانه زائل من هذه الدنيا، فانه سوف يرتدع عن ارتكابها، ويطهّر نفسه منها ومن تداعياتها الخطيرة، ليس هذا فقط بل انه يزهد عن مغريات الدنيا ويأخذ منها بقدر ما تعينه على الآخرة، فيكون قانعا بما قسمه الله تعالى له من رزق، يكتفي بما عنده ولا يعتدي على حقوق الغير، بل يحسن اليهم في الكثير من الحالات.
الإكثار من ذكر الموت لا ينفع الغني فقط بجعله متواضعا هادما لبرجه الكارتوني المزيّف، بل انه ينفع الفقير كذلك بان يكون راضيا بما قسمه الله تعالى له، صابرا على قلة ذات اليد، فان ذكر الموت يحدّ من طغيان الغني ويهدّأ من فاقة الفقير، فالإنسان بطبيعته المادية قد تجرفه ملذات الحياة الدنيا الى المعاصي والطغيان والكفر، وأفضل وسيلة لإزالة تلك العقبات الكأداء عن طريقه هي الاكثار من ذكر الموت، فانه وكما يقول الرسول الأكرم: (أكثروا ذكر الموت، فإنه يمحص الذنوب، ويزهد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم) كنز العمال للمتقي الهندي: ٤٢٠٩٨.
متطلبات الحياة قد تشغل الانسان عن ذكر الله تعالى والعبادة وأعمال الخير والبر والاحسان، ويبقى منغمسا بجمع الأموال وما يتبعه من ملذات اللهو واللعب والابتعاد عن القيم والفضائل والكرامات، ومن طبيعة الانسان أنه ينسى طرائق النجاة التي بها يحيى وبدونها يهلك ويردى، وان من أهم طرق النجاة الاكثار من ذكر الموت، فهو بمثابة مقياس السيطرة النوعية لجودة الاعمال الدنيوية، فالإنسان الذي يفكّر دائما بالموت وأنه ملك لله تعالى وراجع وصائر اليه للحساب يوم القيامة، فانه يقوّم سلوكه طبقا للموازين الشرعية؛ لكي ينجو بنفسه من أهوال القبر والحساب يوم الجزاء الأكبر، وهذا ما سينعكس على تعامله الأمثل مع والديه وأهله وابنائه وأسرته ومجتمعه، وقبل ذلك تعامله الأمثل مع خالقه وبارئه الذي وهب له الحياة وأغرقه بنعم جمة لا تعد ولا تحصى.
حري بالإنسان ان يشكر الله تعالى على ما فيه من نعم؛ ليرفل في بحبوحة من العيش الرغيد في الدنيا والنجاة في الآخرة، فالإكثار من ذكر الموت يحيي قلب صاحبه بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وبطبيعة الحال ان الذي يذكر الموت دائما ويستعدّ له بالعمل الصالح، فانه لا يخاف ولا يهاب منه، بل يعتبره نافذة الى الحيوان الأكبر، وهذا المعنى لا يتوارده الا المؤمن الذي امتحن الله قلبه للإيمان، فوجده لما امتحنه صابرا محتسبا راضيا.
عادة الخوف من الموت يعتري الكافر والظالم والعاصي؛ لأنه ينتقل من سعادة بنظره الى مجهول وشقاء، أما المؤمن فانه لا يخاف من الموت البتة، بل انه يرحّب به ويعتبره جسرا يعبر به من المشاكل والشقاء الى الراحة والهناء، الرسول الأكرم يدلنا على خارطة طريق النجاة والارتباط الحقيقي بالله تعالى بقوله: (أكثروا ذكر الموت، فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيى الله قلبه، وهوّن عليه الموت) كنز العمال للمتقي الهندي: ٤٢٠٩٨.
من أكثر من ذكر الموت قلت في الدنيا رغبته، ومن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا بالكفاف، ومن أكثر من ذكر الموت أحجم عن الظلم والفساد ورغب في العدل والاصلاح، ومن أكثر من ذكر الموت تهون عليه المصائب ويكون متجلدا في ذات الله ولا يخاف في الله لومة لائم، ومن أكثر من ذكر الموت نفسه منه في عناء والآخرين منه في راحة، ومن أكثر من ذكر الموت بشره في وجهه وحزنه في قلبه، ومن أكثر من ذكر الموت وخروجه من القبر عريانا ذليلا، حاملا ثقله على ظهره، فانه ينظر لا محالة الى رحمة الله ولطفه وعطفه على عباده المخلصين الذين كانوا يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
نعم من أكثر من ذكر الموت تراه ملكا يمشي على الأرض وملاكا يصعد الى السماء، وسرعانما يصعد الى الله تعالى الكلم الطيب، وما أطيب من مؤمن وجل قلبه بذكر الله ووطّن نفسه للقائه بنفس راضية مرضية، الإمام علي (عليه السلام) يقول لابنه الحسن (عليه السلام): (يا بني أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك) نهج البلاغة: الكتاب 31.