عادة تستغل الدول التي تستضيف التجمعات البشرية الكبرى ـ كالدورات الرياضية التي تسلط عليها الأضواء ـ لإظهار وإبراز أهم خصائص ثقافتها وحضارتها، وهذا ما حاولت فرنسا القيام به خلال افتتاح الاولمبياد الأخيرة، فحاولت إظهار نفسها بأنها أكثر الدول وفاءاً لمبادئ عصر التنوير الذي ظهر في القرن الثامن عشر، فعلى أرضها ولد، وكان منها أكثر دعاته، هذه المبادئ التي اختزلتها فرنسا بالدعوة لقبول المثليين والمتحولين جنسياً، لكن هل هو جدير بهذا الفخر؟! وهل يعلم المتشبهون به ماهية مبادئه؟ هل كان "عصر التنوير" بحق كما نتصوره اليوم منارةً للتسامح والفكر المستنير؟ أم أن هناك ظلالاً خفيةً تكتنف هذه الصورة الزاهية؟
فلنفتح صفحات الماضي، ونقرأ سطوراً كتبتها أقلام بعض "المفكرين المستنيرين" لنجد فيها ما قد يصدمنا اليوم:
• جان جاك روسو: الكاتب الذي تغنى بالطبيعة والإنسان، نجده يقول عن المرأة: «لديها كل شيء ضدها، عيوبنا، خجلها، ضعفها». ويصف الحب بأنه «الحبُّ شيء اخترعته النساء ليتمكن هذا الجنس من أن يسيطر، مع أنه إنما وُجد ليطيع».
• فولتير، تجده في منتهى العنصرية حين يقول: «إنه لأمر مؤسف أن أتحدث عن اليهود: هذه الأمة، من نواح كثيرة، هي الأكثر حقارة التي لطخت الأرض على الإطلاق». فهل يتجرأ أحد المتنورين الجدد على وصفه بالمعادي للسامية؟!
ويقول ايضاً: «البيض متفوقون على هؤلاء السود، كما السود متفوقون على القرود، كما القرود متفوقة على المحار».
ويقول «نحن لا نشتري العبيد المنزليين إلا من السود ... هذه التجارة تدل على تفوقنا».
وأيضًا «لا يُسمح إلا للأعمى بالشك في أن البيض والسود والألبينو والهوتنتوت والصينيين والأمريكيين ليسوا أعراقًا مختلفة تمامًا».
وعن المرأة يقول: «تشبه النساء دوارات الرياح: تثبت عندما تصدأ».
• ديدرو: الموسوعي الذي جمع المعرفة الإنسانية، يقول عن السود: «على الرغم من أنهم يفتقرون إلى الذكاء، إلا أنهم لا يفتقرون إلى الشعور».
ولنتوقف قليلاً عند " فولتير" بطل التسامح المزعوم، ورمز أوروبا التنوير، ومعبود أشباه المثقفين، الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة أعماله، فلم يتوانَ عن الحديث عن الدين بتسامحٍ زائف ومبالغٍ فيه، وكان يحلم بهدم صرحه، والوصول إلى "سحق الخبيث" (في إشارة إلى المسيحية نفسها). مدفوعًا بتعصبه الأعمى ضد الدين، لم يتردد في توقيع بعض رسائله باسم مستعار: "ساحق الخبيث". هذا الرسول المزعوم للتسامح، يصف "الخبيث" بأنه "شبح... بشع"، "وحش بغيض"، و"أفعى بغيضة تنشر السم وتقتل". كما استخدم اسمًا مستعارًا آخر هو "ساخر المسيح"، وهو تعبير يكشف عن حقيقته بشكل صارخ.
ومما يدل على عدم اطلاع الملحدون على كلماته، غفلتهم عن هجومه عليهم ووصفهم بأبشع الصفات، حين قال: «في الغالب علماء متغطرسون وضالون لا يحسنون التفكير».
ولمعرفة موقف المتنورين الجدد، دعونا نستذكر ما كتبه البابا يوحنا بولس الثاني في كتابه "الذاكرة والهوية"، حيث يشير إلى فكر عصر النهضة قائلًا: «على مر السنين، ترسخت لدي قناعة بأن أيديولوجيات الشر متجذرة بعمق في تاريخ الفكر الفلسفي الأوروبي. يجب أن أشير هنا إلى بعض الحقائق المتعلقة بتاريخ أوروبا، وخاصة تاريخ ثقافتها السائدة (عصر النهضة، التنوير). عندما نُشرت دائرتي الرسولية الأخيرة (روعة الحقيقة)، كان رد فعل بعض الأوساط في الغرب سلبيًا، وبشكل عنيف. من أين جاء هذا الرفض؟ لقد جاء من نفس المنابع التي انبثق منها التنوير الأوروبي، خاصة الفرنسي منه، قبل حوالي 200 عام، دون إغفال التنوير الإنجليزي والألماني والإسباني والإيطالي. لقد تم تقليص مكانة الله إلى مجرد محتوى في الوعي البشري، ولم يعد يُنظر إليه على أنه المبدأ الذي يفسر وجود الإنسان وحقيقته. في عقلية التنوير، اختفت الدراما العظيمة لتاريخ الخلاص، وبقي الإنسان وحيدًا: وحيدًا كخالق لتاريخه وحضارته، وحيدًا كمن يقرر ما هو خير وما هو شر. إذا كان الإنسان يستطيع أن يقرر بنفسه، بدون الله، ما هو خير وما هو شر، فإنه يستطيع أيضًا أن يتحكم في مصير الآخرين ويقرر إبادتهم... شهدنا قرارات مماثلة في عهد الرايخ الثالث، وفي ظل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والبلدان التي خضعت للأيديولوجية الماركسية».
في حقيقة الأمر، قام كل من عصر النهضة وعصر التنوير بتطوير مشروعٍ طموحٍ بتجريد الانسان عن كل العناصر الثقافية الدينية التي شكلته عبر التاريخ. وأصبح المرجع الوحيد هو الإنسان نفسه، إنسانٌ متعالٍ ومنفصل عن الإله، يُحركه عقله ورغباته الشخصية دون أي ارتباط بالروحانية.
لقد رسم فلاسفة هذه الحركات صورة يوتوبية، مفادها أنه من خلال تحرير الإنسان من أي قيد ثقافي أو ديني، وتحقيق علمنة كاملة لحقوقه، سيحل السلام الدائم على العالم، كما تخيل إيمانويل كانط، أحد أبرز فلاسفة التنوير. ورغم جاذبية هذه الفكرة، إلا أن العديد من علماء الاجتماع والنفس يشهدون اليوم بأن ثمار هذا التحرر المزعوم، في واقع حياة الأفراد، غالبًا ما تتجلى في مشاعر الاغتراب عن العالم، والاقتلاع من الجذور، وفقدان الهوية والمعنى، وحتى الضياع الوجودي غير المسبوق.
ومن الجدير بالذكر أنه في أعقاب انتشار هذا الفكر المتحرر في أوروبا، ازدادت الحروب والصراعات بشكل كبير، ولا تزال تتفاقم حتى يومنا هذا، بسبب تضارب المصالح بين القوى الصاعدة. على سبيل المثال، كان فريدريك الثاني ملك بروسيا وكاثرين الثانية إمبراطورة روسيا محل إعجاب فلاسفة التنوير، حيث اعتبروا "حكامًا مستنيرين"، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يكونوا مستبدين حقيقيين، بل وأكثر قسوة في كثير من الأحيان من الحكام الذين سبقوهم.
,على مدار القرن التاسع عشر، تزينت فكرة الغزو الاستعماري برداء الحضارة والتمدن، بزعم نشر حقوق الإنسان والمبادئ العلمانية. دعونا نتذكر أيضًا أن أعظم إيديولوجيتين ملحدتين في القرن العشرين، وهما الشيوعية والنازية الهتلرية، اللتان تستندان إلى معتقدات تنويرية كانتا وراء عشرات إن لم يكن مئات الملايين من الأرواح البريئة التي أزهقت ظلماً باسم صراع الأعراق أو صراع الطبقات. هذا العنف المفرط الذي لم تشهده البشرية من قبل، تجاوز كل الحدود المتصورة، وكشف زيف ادعاءات هذه الإيديولوجيات التي زعمت أنها تحل محل الأديان، في حين أنها تسببت في إراقة دماء أكثر بكثير.
إن التاريخ يفضح زيف المقولات المتداولة حول "العنف الديني"، ويثبت أن فلسفة حقوق الإنسان المنفصلة عن جذورها الدينية قد أدت إلى ويلات تفوق بكثير تلك التي نجمت عن الإيديولوجيات الدينية التي حلت محلها.
في كتابه "بداية العالم"، يستعير الكاتب جان كلود غيبو عبارة "فوضى-عالم" من الكاتب الكاريبي إدوارد غليسانت لوصف الخسارة الفادحة التي مُنينا بها في نهاية القرن العشرين، والتي تجلت في انهيار مشروع الحضارة والثقافة والتحرر. فبدلاً من أن يشعّ النور من أوروبا وأمريكا، تحولت هاتان القارتان إلى مجرد مركز تسوق عالمي، يقدمان وعوداً براقة وعلامات تجارية مغرية، ويدعوان الشعوب الأخرى للانضمام إلى هذا السوق الاستهلاكي.
واليوم، يقر العديد من المفكرين "العلمانيين" بأننا قد وصلنا إلى طريق مسدود، وأن إيديولوجية "التنوير" قد أطفأت نور العقل، وأدت إلى غرقنا في ظلمات اللاعقلانية. إن ما بعد الحداثة هي مجرد تجميع عشوائي لثقافة فقدت روحانيتها.
ومن بين أبرز الشخصيات التي تناولت هذه القضية، فرانسوا رينيه دي شاتوبريان، صاحب القلم البليغ والعقل الثاقب، الذي قدم في كتابه "مقال حول الثورات" (1797) تحليلاً نقديًا لفلسفة التنوير. يقول شاتوبريان: «من المستحيل الخوض في تفاصيل فلسفة التنويريين؛ معظمهم قد طواه النسيان، ولم يبق منهم سوى الثورة الفرنسية. حتى كتبهم لا تقدم رؤية واضحة ومتكاملة. نرى في بعض أعمال ديدرو، على سبيل المثال، تبنيه للإلحاد المطلق، لكنه لا يسوق لذلك سوى حجج واهية (وهذا لا ينطبق على جميع أعماله، بل هو نتيجة عامة؛ فهو حتى يؤمن بالله في بعض المواضع، مما يظهر تناقضه). أما فولتير، فلم يكن يفقه شيئًا في الميتافيزيقيا، وإنما كان يسخر ويكتب الشعر الجميل وينشر الرذيلة. وحتى من جاء بعدهم لم يكونوا أفضل حالاً في التفكير. كتب هلفتيوس كتبًا للأطفال مليئة بالمغالطات التي يمكن لأي طالب مبتدئ أن يدحضها. أما كوندياك ومابلي، فالأفضل تجنب الحديث عنهما، ناهيك عن جان جاك ومونتسكيو، وهما من طينة مختلفة عن الموسوعيين».
ثم يتساءل شاتوبريان: «فما هو إذن روح هذه الطائفة؟ التدمير. التدمير هو غايتهم، وحجتهم الوحيدة. ماذا أرادوا أن يضعوا محل الأشياء القائمة؟ لا شيء. كان ذلك غضبًا عارمًا على مؤسسات بلادهم، والتي لم تكن مثالية بالطبع، ولكن من يهدم عليه أن يعيد البناء، وهذا هو الأمر الأصعب، الأمر الذي يجب أن يجعلنا نتوخى الحذر من الابتكارات. الحقائق السلبية سهلة الفهم للجميع، بينما الحقائق الإيجابية لا يدركها إلا العظماء. الأحمق يستطيع بسهولة أن يقدم حججًا ضد شيء ما، لكنه يعجز عن تقديم حجج مقنعة لصالح شيء آخر».
وهكذا، يسلط شاتوبريان الضوء على الجانب المظلم لـ "عصر الأنوار"، ويكشف عن هشاشة العقلانية المفرطة التي قد تقود إلى التدمير والفوضى إذا لم تكن مصحوبة بالحكمة والقيم الأخلاقية.