تنسابُ كلماته لتلامسَ شغاف القلوب، فهي تقف عند بيوت الفقراء لمواساتهم كما تفضحُ حكّام السلطة الذين جهلوا واقع هؤلاء أو تعمّدوا في أذيتهم، ثمّ تسافر في وجدان الناس لتخبرهم عن قصّة صديقين وصل بينهما الوفاء والمحبّة أن يكونا شخصاً واحداً أو روحاً واحدة موزعة بين جسدين، وعندما تذكر الكرم والشجاعة والمآثر والقيم الاجتماعية فهي تنضمّ إلى آلاف الكلمات التي صنعت سجلاً حافلاً بالجمال والإبداع.
لم يكن الشعر الشعبي إلا ذلك المعين الذي ينهلُ منه العراقيونَ ما يلبّي ذائقتهم، ويشحن أرواحهم حدَّ أن تفصحَ عن مكنوناتها وما غاصَ فيها من دُرر أو شرر، وكل بيتٍ في قصائده لا ينطقُ عن شاعره فحسب؛ وإنّما عن كل واحدٍ ذاقَ ما ذاقه الشاعر أو ما مرّ به من موقف لا يُنسى.
أسلوب معبر عن أحاسيس الناس
وبحسب الباحث والأكاديمي وعد عبد الأمير فإن "الشعر الشعبي العراقي يعد أحد أهم الفنون العراقية؛ إذ بدأ العراقيون بممارسته منذ سنوات طويله كأحد أساليب التعبير عن الفرح والحزن والاغتراب وغيرها من الاحاسيس العاطفية, واستعمل ايضاً في المجال السياسي وبأسلوب جماعي للتعبير عن الاستياء والمعارضة للسطات والتظاهر عليها".
ويعتقد المؤرخون والنقاد بأن الشعر الشعبي العراقي يُولد كل حين وتتوارثه أجيال بعد أجيال، كما تعود صناعته إلى سنوات طويلة مضت، فقد حوّل الكلمات المحكية الشفاهية أي التي درجت على لسان الناس إلى شعرٍ له موسيقاه الخاصة وصوره الفنية ورسائله وفنونه أيضاً.
وفقاً للشاعر علي تركي الكريطي فإنّ "الشعر الشعبي كان ولا يزال مرافقاً لحياة الناس في فرحهم وحزنهم، عتابهم وهجائهم، وفي السلم والحرب أيضاً".
ويضيف في حديثه لـ (كلمة)، إنّ "الأم العراقية وخصوصاً في المناطق الجنوبية وهي تهدهد رضيعها لينام مطمئناً في حجرها تلجأ إلى الشعر؛ فتصوغ محبتها لصغيرها في كلمات رقيقة كأنها تخرج من روحها لا من فمها".
ويتابع بأنّ "الصيادين الذين يمخرون بمشاحيفهم عبابَ الأهوار ينشدون الشعر أيضاً، والعجائز وهن يندبن من رحل مبكراً عن الحياة، والزوجة التي فارقها زوجها وهكذا، كل ذلك يكون من خلال الشعر كونهُ يعبّر عن الحالة التي يمر بها الشاعر أو منشد الشعر، فيسلّي نفسه بهذا الفنّ الأدبي الجميل".
أما الشاعر مرتضى الحسناوي فيقول لـ (كلمة): إنّ "الشعر الشعبي لا يقل أهميةً عن الشعر العربي الفصيّح، وإن كان سجل الأخير أكبر مساحةً وأكثر انتشاراً بين متكلمي اللغة العربية"، مستدركاً بأنّ "الشعر الشعبي العراقي يعبّر بالدرجة الأولى عن هوية البلد وأبنائه، وكذلك يفصح عن قضاياهم الدينية والاجتماعية والوطنية".
يواصل الحسناوي حديثه وهو يترنّم بأهزوجة شعبية فيقول: إنّ "الشعر الشعبي يتميّز عن الشعر العربي بتنوّع أساليبه وفنونه الخاصة، بل وتجد لكل مدينة أو محافظة قصيدتها، فمنها الأبوذية والعتابة والدارمي والأهزوجة، ولكل منها متلقوها ومتذوّقوها".
ويشير إلى أنّ "الشعر الشعبي عندما يكون قريباً من ذائقة الناس ويسهل فهمه وحفظه حتى من قبل أبسط الناس؛ فهو يعني أنه ينجحُ في ترجمة مشاعرهم والوصول إلى أدق التفاصيل في حياتهم بل والزوايا الكامنة في أرواحهم وقلوبهم؛ فهيّج فيهم ما يعجز غير الشعر على التنقيب به وإظهاره إلى العلن".
وظائف مهمة يؤديها الشعر الشعبي
وبما أنّ الشعر الشعبي العراقي يعد أحد أبرز أشكال التعبير الفني التي ساهمت في الحفاظ على الثقافة الوطنية وارتبطت بقلب المجتمع العراقي، فهو يؤدي وظائف مهمة على المستويين الثقافي والاجتماعي.
يحدّد الباحثون في المجال الأدبي هذه الوظائف بـ "الحفاظ على التراث الثقافي؛ كون أن الشعر الشعبي يمثل جزءاً من الهوية الثقافية للعراقيين ويُتناقل عبر الأجيال، فضلاً عن التعبير عن المواقف الاجتماعية والسياسية من آلام وأفراح الناس ونقل آرائهم والتعبير عن رفض أو دعم للأحداث السياسية والاجتماعية".
كما أن الشعر الشعبي "يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجماهير من خلال استخدام لغة قريبة من الناس وحكيهم اليومي ويصل بذلك إلى جمهور واسع جداً، كما يظهر دوره في إبراز القيم الإنسانية من الكرم والشجاعة والحب والحزن والروابط القبلية، محققاً في الوقت ذاته المواكبة للمتغيرات الثقافية والاجتماعية".
الشعر الشعبي والقضايا العظيمة
لعلّ من أبرز وأعظم القضايا الإنسانية التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعراقيين وخصوصاً من المسلمين الشيعة؛ هي قضية عاشوراء وذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) الذي يُنظر إليه بوصفه إماماً للعدل والإنسانية ومصلحاً عظيماً ومدافعاً عن الحرية والمظلومين بوجه الظلم والظالمين، ولذلك وجد الشعر الشعبي من هذه القضية الإسلامية والإنسانية البارزة مساحةً أوسع فراحَ يغوص في عرضها وإيصال ما فيها من الحزن وكذلك القيم التي خلّدتها النهضة الحسينية وصارت ملاصقة لوجدان الناس على مر الأزمان.
عن هذه الخصيصة المهمة يقول الخطيب الشيخ وائل الجشعمي لـ (كلمة): إنّ "الخطباء الحسينيين درجوا على استخدام الأبيات الشعرية باللهجة الشعبية العراقية للتعبير عن القضية الحسينية وآلامها وأحزانها؛ للتأثير في نفوس المتلقين وزيادة ربطهم بواقعة عاشوراء الأليمة".
ويضيف بأنّ "كل خطيب عادة ما يبدأ مجلسه بالنعي لاستذكار المصيبة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الكلام الموزون وهو الشعر بنوعيه العربي الفصيح والشعبي (الدارج)"، مبيناً أن "الشعر الشعبي هو الأقرب إلى ذائقة المتلقّي؛ ويصبح منجذباً بكل جوارحه للاستماع إلى الخطيب والبكاء على صاحب الذكرى من أئمة أهل البيت (ع) وخصوصاً الإمام الحسين (ع) وعاشورائه".
يلفت الجشعمي أيضاً إلى "استخدام الشعر في القصائد الرثائية والردّات الحسينية التي تشيع خلال المناسبات الدينية ومنها عاشوراء وأربعينية الإمام الحسين (ع)"، مبيناً أن "الشعر الشعبي بذلك مهم لخدمة مثل هذه القضايا وترسيخها في وجدان الناس".
وتشاركه الرأي الباحثة سعاد الوزني بالقول: إنّ "الشعر الشعبي استطاع استثمار قيم ومآثر عاشوراء لإسقاطها على القضايا المجتمعية وحتى السياسية؛ وبذلك إيصال رسائل الإصلاح ورفض الحكام الظالمين من خلال قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وعبر الشعر الشعبي".
وتضيف في حديثها لـ (كلمة) بأنّ "الشعر الشعبي يستطيع أن يستنهض الهمم ويحفّز في الناس لتأدية مسؤولياتهم تجاه عقديتهم ووطنهم وما يتعرضون له من مخاطر وتحديات".
واقع لا يخلو من الانتقادات
في حين ينتقد طائفة من المتذوّقين والشعراء والمثقفين في العراق عدداً من الحالات السلبية التي طرأت على المجال الشعري ذاته وكذلك المحافل المقامة التي يلقي فيها الشعراء قصائدهم بمناسبة أو من غير مناسبة.
كما يرى البعض ممن تحدثوا لـ (كلمة) أنّ قيمة الشعر الشعبي يُساء لها من خلال ما وصفوه بـ"تفاهة قائليه، أو استخدامه في أغراض لا تلبي الذائقة الإنسانية وبعيدة عن القيم والعادات الاجتماعية الأصيلة" عازين سبب ذلك إلى "ظهور جمهور من الشعراء جعلوا من مواقع التواصل الاجتماعي منصّات لنشر تفاهتهم وحتى أفكارهم الهدّامة التي لا تقدّم للمجتمع شيئاً مهماً وإنما هي عبارة عن نزعات إنسانية سلبية يعكسونها من خلال الشعر الشعبي".
كما انتقدت آلاء العابدي وهي متذوّقة للشعر منذ الصغر، حالات وجود النساء المتبرّجات بين جماهير المحافل الشعرية، واعتبرت بأنّ من "حق النساء أن يستمعن ويلقين الشعرَ أيضاً؛ ولكن ليس على حساب الذائقة والأخلاق والتقاليد الاجتماعية".
تقول العابدي في حديثها لـ (كلمة): إنّها "كانت ترافق أباها منذ الصغر لحضور المحافل والمنتديات التي تلقى فيه قصائد الشعر الشعبي تحديداً، ولكن لا تذكر أن نساءً حضرن بكامل زينتهنّ للاستماع".
وتستدرك، "حضور النساء كانت مقتصراً على الشاعرات وكان عددهن قليلاً، ولا يحضرن إلا في محافل تقام لإحياء مناسبة دينية أو وطنية، مع المحافظة على عفتهنّ ودون أن تمسّهن أي كلمة".
وتابعت بأنّ "النساء حتى الشاعرات لا يحضرن بتاتاً للاستماع إلى قصائد غزلية أو كلمات تعفّ عن الاستماع إليها، بل لا يرغب جمهور الشعراء والشباب بوجودهن بينهم احتراماً لخصوصيتهن كنساء".
ويشاركها الرأي الشاعر مصطفى الأسدي بالقول: إنّ "حضور النساء والشاعرات بشكل خاص للمحافل الأدبية يقتصر على استذكار شخصية مهمة أو إحياء مناسبة وطنية، فيعطي حضورهن زخماً ورصيداً مهماً في مشاركة المرأة للرجل بدعم القضايا المهمة".
ويوضح في حديثه لـ (كلمة) بأنّ "حضور النساء لمجرّد إظهار الزينة أو التقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي لا يلبي الغاية المهمة من الشعر أو أي فن أدبي؛ باعتبار أن هذه الفنون لها رسائل هادفة وأصيلة ولا يمكن الإساءة لها بهذا الشكل أبداً".
ولذا يرى بأنّ "من الضروري احترام خصوصية المتلقّين وكذلك عدم الإساءة لمشهدية الشعر ورسالته الإنسانية من خلال تصدير هكذا ظواهر ازدادت للأسف في الآونة الأخيرة" بحسب قوله.
كما ينتقد الشاعر عبد الستار الخالدي، ظاهرة استخدام الشعر الشعبي في الترويج لشخصيات سياسية فاسدة أو أوغلت في سلب حريات الناس وحقوقهم المشروعة.
ويقول لـ (كلمة): إنّ "تنازل الشاعر الشعبي عن القضايا الإنسانية العظيمة وهموم الناس لصالح السياسيين الخائنين لدينهم ووطنهم أمر مسيء لوجدان الناس وحقوقهم؛ وكذلك يسيء لهذا الفن الذي يحمل رسالة خالدة".
ويؤكد الخالدي بأنّ "مثل هذه الحالة ظهرت للأسف وصار الشعر الشعبي وسيلة للتكسّب والربح المادي على حساب الهوية والمبدأ والدين وهو ما لا يحمد عقباه وسيجعل الناس ينفرون من هذا الفن الأدبي الناصع".
كما ينتقد آخرون "الاسهاب في عدد البرامج التلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي التي تخصص ساعات طويلة للشعر الشعبي على حساب الفنون الأخرى، وفي الوقت الذي أكدوا أنها مهمة لإبراز مواهب الشعراء الشباب، ولكن ليس على حساب طرح الموضوعات غير الأخلاقية أو الانحدار الثقافي".
وأكدوا بأنّ "وسائل الإعلام مهمة لعرض كل الفنون والتعريف بها وإظهار التجارب الجديدة، ولكن كما يبدو أن بعض القنوات الفضائية تتعمّد الإساءة للمجتمع العراقي من خلال برامج شعرية لا ترتقي بالذائقة العراقية الثقافية وإنما تسعى إلى الانحدار بها" على حدّ تعبيرهم.
وأشار هؤلاء إلى أنّ "هذه القنوات لا تعطي قيمة للشعر الشعبي وإنما تفعل ذلك على حساب (الطشّة) واجتذاب عدد أكبر من المشاهدين والمتلقّين؛ مما يؤشر حالة سلبية يجب معالجتها".
ولذا دعوا من خلال منبر (كلمة) إلى "إظهار الهوية الحقيقية للشعر الشعبي في طرح القضايا المهمة وتثقيف المتلقين وتوعيتهم بأحب الفنون الأدبية القريبة من قلوبهم وذائقتهم".
ولم ينكروا أيضاً أن "هناك برامج تلفزيونية وأخرى على منصات السوشيال ميديا قدّمت الشعر الشعبي بأبهى ما يكون وعرّفت المتلقين بأجيال الشعراء من الرواد والتجارب الشبابية الجديدة التي تستحق الإشادة والدعم".