قال تعالى: ﴿ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجزِيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ النحل: ٩٦. ما عندكم - أيها الناس - من المال واللذات والنعيم ينقضي ولو كان كثيرًا، والشيء الوحيد الذي يبقى ولا يندثر، ينفع ولا ينقضي، يدوم ولا يزول، هو ذلك المال الذي تنفقه في سبيل الله، تنفقه لسد جوعة جوعان، وكسوة معدم عريان، واغاثة كبد لهفان، وتنفيس هم المكروبين من الرجال والصبيان والنسوان، أما ما تصرفه على نفسك ومصالحك الخاصة، وما تتمتع به من سفر وبطر وبذخ في المأكل والمشرب والمنكح، كل ذلك ينفد ويهلك، بل ربما يكون وبالا عليك ما لم يكن في دائرة طاعة الله ومنصبا لخدمة العباد والبلاد، ومن هذا المنطلق فان الصرف المجرد ينفد، والصرف الهادف ينهمر على صاحبه شآبيب من الرحمة الإلهية، فهو الذي يتلقى الجزاء الأوفى من الرب الأعلى، وما عند الله من الجزاء باق، فكيف تؤثرون فانيا على باق؟
لماذا يكره الانسان الموت؟! ولماذا ينجذب الى الدنيا وينسى أو يتناسى هادم اللذات؟! لماذا ينغمس في الملذات وهو يرى الموت يطرق أبوابه دون ان يعبأ به أو يحذر منه أو يعدّ له العدة؟! أتعلم لماذا يكره الموت وهو يعلم أنه حقيقة لا يمكن الفرار منها؟! أنه يكره الموت، لأن الموت ينتقل به من جنته الموهومة الى عذاب ينتظره جزاء أعماله السيئة وخطاياه الماحقة، لأن الموت حال بينه وبين المال الذي اتخذه غاية، ولأن الموت يقضي على الذي جمعه من قصور وأموال، وما تزيّن به من بنين وزوجات، وما تمتّع به من سفر ومنتجعات.
كيف لا يكره الموت وهو الذي خدعته الدنيا بغرورها وانساق وراء مغرياتها المادية الزائلة؟! كيف لا يكره الموت وهو الذي اتخذ دينه دنانيره وقبلته نساءه، وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يأتي على الناس زمان بطونهم آلهتهم ونساؤهم قبلتهم، و دنانيرهم دينهم، وشرفهم متاعهم، لا يبقى من الايمان إلا اسمه، ولا من الاسلام إلا رسمه، ولا من القرآن إلا درسه، مساجدهم معمورة من البناء، وقلوبهم خراب عن الهدى، علماؤهم شر خلق الله على وجه الأرض، حينئذ ابتلاهم الله في هذا الزمان بأربع خصال: جور من السلطان، وقحط من الزمان، وظلم من الولاة والحكام فتعجبت الصحابة فقالوا: يا رسول الله أيعبدون الأصنام؟ قال: نعم، كل درهم عندهم صنم) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٢ - ص ٤٥٣.
عبادة الاصنام ليست مقتصرة على الاصنام الحجرية أو البرونزية أو الحديدية، ربما تكون الأصنام التي ينجذب ازاءها الفرد ويعبدها اشد العبادة بل يلتصق بها التصاقا مهولا هي الدرهم والدينار والذهب والفضة، الموت عندما ينزل بساحة الانسان المتعلق قلبه بالمال فانه ينزل كالصاعقة على رأسه تجعله قاعا صفصفا، كيف لا يكون كذلك والموت يحول بينه وبين من يحب؟! والموت يكون سببا في فرط ذلك العقد الذي كان يربطه بالمال والجاه والسلطة والصولجان، هذا كله لمن اتخذ من المال هدفا وغاية بحد ذاتها، فانه يبرر كل الوسائل للوصول الى هدفه من حرام وغش وسرقة ورشوة وربا، لا يعمل هذه الأمور ولا يقترف تلك الذنوب الا الأناني أو المنافق أو عديم الايمان، ومصير أولئك يكون واضحا للعيان دون المزيد من السرد والبيان.
أما الذي يتخذ من المال وسيلة للبلوغ الى الهدف الأسمى، ويصرف ماله على نفسه وعياله بما يحفظ كرامتهم ويعيش حياة العفاف والكفاف البعيدة عن البطر والطغيان، ويوزع ما تبقى من ماله وما فضل منه على الطبقات المستضعفة بما يحقق حالة التضامن والتكافل الاجتماعي، فانه لا يكره الموت فحسب، بل ينتظره ويرحب به اذا ما نزل بساحته، كيف لا يكون كذلك وهو الذي ينتقل من دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة الى جنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين والمنفقين في سبيل الله تعالى، التعلق بالمال من عدمه هو البوصلة في كراهة الموت من عدمها هذا ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لرجل سأله عن علة كراهة الموت -: (ألك مال؟ قال: نعم، قال: فقدمته؟ قال: لا، قال: فمن ثم لا تحب الموت) الخصال للصدوق: ١٣ / 47.
المال الذي بين يديك، تارة يكون مالا مجردا واخرى يكون مالا هادفا، المال المجرد هو ذلك الذي يكون في اسعاد صاحبه دون ان يتعداه الى اسعاد الطبقات الفقيرة، والمال الهادف هو ذلك المال الذي يكون وسيلة لإسعاد الفرد والمجتمع ضمن اطار العدالة الانسانية، وبما ان الدين الاسلامي هو الذي يفضل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وهو الذي يحاول ان يضمن حقوق المجتمع بما يحفظ وجودهم وكرامتهم وقيمهم الأصيلة، فانه حذّر من الانانية في التصرف بالأموال، بل ان الانسان مستخلف عليها يأخذ منها مقدار ما يكفيه ويوزع الباقي على الطبقات الفقيرة، وبطبيعة الحال ان الانسان الذي قدّم ماله في سبيل الله فقد أحبّ الموت؛ لأنه الطريق الى رضا الله تعالى، والانسان الذي احتفظ بماله لنفسه ولم يقدم شيئا في سبيل الله فقد كره الموت؛ لأنه الطريق الى السخط الالهي، فالمال هو الفيصل بين الجنان والنيران، هذا الذي حدى برسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستفهم من أحد الصحابة: (هل لك مال؟ فقدم مالك بين يديك، فإن المرء مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحقه، وإن خلفه أحب أن يتخلف معه) كنز العمال للمتقي الهندي: 42139.
العاقل هو الذي يأخذ من الدنيا ما تستحق ويعطي للآخرة ما تستحق، والمتهوّر هو الذي يضع بيضاته كلها في سلة الدنيا دون ان ينظر الى ما يؤول اليه مصيره بعد الموت، الفكر الاقصائي الذي حاربه الاسلام محاربة شديدة هو الذي يودي بالإنسان الى المهالك، وهذا الفكر انما يصل اوجه عندما يفكر الانسان بنفسه بمعزل عن الآخرين، يتخذ من الدنيا جنة له من دون أن يفكر بالموت، واذا دق جرس الموت أذنيه بفقدان الأحبة والاصدقاء، فانه يتهيّبه ويكره الوصول بساحته؛ لأنه خرّب آخرته بعدم الانفاق، وعمّر دنياه بأنانيته وحرصه وتعلقه الشديد بالمال الذي جمعه، (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) الهمزة: 3،4. ومثل هذا يكره الانتقال من عمران الدنيا الى خراب الآخرة، وكما قال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: (لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، وأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب) معاني الأخبار للصدوق: ٣٩٠ / ٢٩.