صنفان رئيسيان ربما يتفرع عنهما أصناف أخرى تزداد شدة وخفة حسبما يمر به الفرد من حالات فسيولوجية ونفسية وعقدية، صنف يأكل لقمة الحرام وما فيها من تبعات قاصمة، وصنف آخر يأكل لقمة الحلال وما فيها من بركات واصبة، عندما نسيح في الصنف الأول نجد ان الأب متهتك، الأم جشعة، التربية طالحة، يعتاش على لقمة الحرام، تظهر سمات هذه المفردات على صفحات وجوده في جسمه او في سلوكه او تقع على ابنائه او مستقبله او حياته، فإن لقمة الحرام تسلب البركة من المال وتمنع قبول العبادات واستجابة الدعاء وتورث قساوة القلب، صاحب هذه الخصلة الذميمة لا يدرك حقيقة الموعظة، ويلتبس عليه الحق والباطل، بل يصير الحق عنده باطلاً وحياته تكون كلها باطلا في باطل، هذا صنف من الناس.
وعلى النقيض من ذلك نجد صنفا آخرا فيه الصفات التالية: الأب ورع، الأم مؤمنة، التربية صالحة، اختلطت لقمة الحلال في بدنه، هذه المفردات تؤثر تأثيرا مباشرا في صناعة الإنسان الحر، الذي يكون انموذجا حيا في التعامل الراقي مع الآخر، بقي عليك ان تنتخب من أي الصنفين أنت؟! لتشق طريقك في الحياة سلبا أو ايجابا.
من سير الصالحين نتحدث عن أحد أعلام الأمة وعلمائها الأمجاد، شيخ وعالم ومحقق أفنى عمره في خدمة الإسلام، ودفع بالإنسانية والفضيلة حيث القمة والمجد، كان معروفاً بالفقاهة والفضيلة، ليس في عصره فحسب، بل إلى عصرنا الحاضر، فكان له وزنه العظيم في علمه وعمله، وهو ما يزال أسطورة خالدة في تقواه وطهارة نفسه، وشأنه في الثقة والجلالة والفضل والنبالة والزهد والديانة والورع والأمانة، أشهر من أن يحيط به قلم، أو يحويه رقم، كان متكلّماً فقيهاً جليل الشأن رفيع المنزلة، أورعَ أهل زمانه وأعبدهم وأتقاهم، هو الملاّ أحمد بن محمد الأردبيلي النجفي، ولقِّب الأردبيلي نسبة إلى بلدة الولادة، نشأ ودرس وتوفي في شهر صفر سنة 993هجرية، في مدينة النجف الأشرف، ودُفن في الصحن العلوي المقدس.
كلما كان الإنسان متحفظا في مأكله وطعامه، كان نباته حسنا، وأعظم شيء يذكر في هذا المجال قصة المحقق الأردبيلي، فهو نتاج لقمة الحلال، وطهارة النطفة التي تعتبر أساساً لمخلوق متكامل: فقد جاء والده إلى قناة يملأ قربته ماءً فرأى تفاحة تجري على الماء، فأخذها وأكلها، ولكنه وقف فجأة يفكر، كيف أكل التفاحة، ولم يستأذن من صاحبها، فأخذ يعاتب نفسه على هذا التصرف الذي لا ينبغي صدوره منه، ولذا فكر في أن يمشي باتجاه معاكس لجريان الماء، لعله يصل إلى صاحب التفاحة، فيسترضيه على أكله لها، مشى مسافة حتى وصل إلى مزرعة التفاح، فلقي صاحب المزرعة، وكان عليه سيماء الصالحين فقال له: إن تفاحة كانت تجري على الماء في القناة، فأخذتها، وأكلتها أرجوك أرض عني!
أجابه الرجل: كلا لن أرضى عنك، قال: أعطيك ثمنها، قال: لا وبعد الإصرار والإلحاح الشديدين وافق صاحب المزرعة، أن يرضى عنه ولكن بشرط واحد! قال الشاب: فما هو الشرط؟ أجاب الرجل: عندي ابنة عمياء، صماء، خرساء، مشلولة الأرجل، إذا وافقت أن تتزوجها أرضَ عنك وإلا فلا! فلما رأى الشاب أنه لا سبيل إلى جلب رضاه إلا بالموافقة على هذا الشرط الصعب، دعاه إيمانه إلى الموافقة، وهو يندب حظه، ويسترجع أي يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون) على هذا البلاء العظيم جراء تفاحة، مضت الأمور كما يريد أبو البنت، وقرأ العقد، وتزوّج الشاب، وعند دخوله على عروسه فوجئ بعروس ذات قامة ممشوقة، وهي في غاية الجمال، أنها مواصفات نقيضة للمواصفات التي ذكرها له أبوها، فخرج الشاب مسرعا (خشية حدوث خطأ في الزواج فتحدث له مشكلة أخرى) وإذا بالرجل ينتظره مبتسماً قال: خيراً إلى أين؟
قال الشاب: إن البنت التي ذكرت لي وصفها ليست هي العروس التي دخلت عليها؟ أجابه الرجل: إنها هي، لأني حينما وجدتك جادّاً في جلب رضاي لأكلك تفاحة خرجت عن حيازتي، وسقطت في الماء وأخذها الماء مسافة بعيدة وجئت تطلب الحل، علمت إنك الشاب الذي كنت انتظره منذ أمد لأزوجه ابنتي الصالحة هذه، ولقد قلت لك: إنها عمياء خرساء، فلأنها لم تنظر، ولم تكلّم رجلا أجنبيا قط، وقلت لك: إنها مشلولة، فلأنها لم تخرج من المنزل لتدور في الطرق، وإنها صماء، فلأنها لم تستمع إلى غيبة أو غناء، أليست هذه فتاة مؤمنة يستحقها شاب مثلك؟
وكان ثمار هذا الزواج المبارك ولادة إنسان اشتهر في ورعه وتقواه وقربه إلى الله وحبه للنبي (صلى الله عليه وآله) ومودته العميقة لأهل البيت (عليهم السلام) وغزارة علمه ومعارفه، وهو بحق قدوة وأسوة لمن أراد ان يتدرج مدارج الحكمة والكمال والمعرفة، انه المقدس الجليل الشيخ أحمد الأردبيلي.
ولكي نعلم كيف صار الشيخ المقدس هكذا، لننظر إلى أمّه ماذا تقول حينما سُئلت كيف صار ولدها الشيخ بهذا المقام الشامخ؟ فأجابت:
1ـ أني لم آكل في حياتي لقمة مشبوهة.
2ـ قبل إرضاع طفلي كنت مداومة على إسباغ الوضوء.
3ـ لم انظر إلى رجل أجنبي بريبة قط.
4ـ سعيت في تربية طفلي أن أراعي النظافة والطهارة.
5ـ سعيت في تربية طفلي أن يصاحب الأولاد الصالحين.
ونحن حينما نتأمل هذه الحادثة العظيمة نعرف كيف يكون أثر لقمة الحلال، وكيف يؤثر الاجتناب عن المحرمات، وردع النفس عن الاقتحام في الشبهات والمحظورات، في تكوين الشخصية المتألقة في سماء القيم والعلم والفضيلة، فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): (ترك لقمة الحرام أحب إلى الله من صلاة ألفي ركعة تطوعًا) عدة الداعي لابن فهد الحلي: 65.
ويقول (صلى الله عليه وآله): (لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلاّ مخافة الله إلاّ أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة) كنز العمال للمتقي الهندي، 15: 787. ولما سأل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ما أفضل الأعمال؟ قال: الورع عن محارم الله) بحار الأنوار للمجلسي، 42: 190.
ومن خلال القصة المعبرة يمكن استنتاج النقاط التالية:
1ـ العمل وفق المضمون القرآني فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.
2ـ العمل وفق المضمون الروائي في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب.
3ـ عدم استصغار الذنب مهما يبدو صغيرا بالنظرة السطحية.
4ـ الآثار الوضعية الطيبة في الدنيا قبل الآخرة للأعمال الصالحة.
5ـ لقمة الحلال فيها البركة والنماء والزيادة والخيرات الحسان في العاجل والآجل.
6ـ الراحة النفسية والاستقرار الذهني والاطمئنان القلبي الذي يساور عادة صاحب هذه الخصلة ومن يلوذ به.
7ـ الإيمان المطلق بالله تعالى والاعتقاد الراسخ بان العالم كله محضر الله فلا ينبغي معصية الله في محضره.
8ـ مجاهدة النفس والصبر على طاعة الله فيها ثمار حلوة ونتائج مبهرة.
ربما يتوهم البعض إن اللقيمات التي يتناولها الفرد من الحرام ذاتا كلحم الخنزير أو الخمر أو عرضا كما أنه يتناول طعاما أمواله من سرقة أو رشوة أو ما شاكل ذلك، يتوهم أنه ليس لهذه اللقيمات تأثيرا على جسمه أو روحه، فالتجارب علمتنا أنه اضافة إلى فقدان البركة وموجبات الرحمة جراء ذلك العمل المشين، فإنها تضرب بأطواق بينه وبين الخالق المتعال، موصدة أمامه أبواب السماء لمدة أربعين يوما، على خلاف الذي تكون لقمته من حلال فإن أبواب السماء له مشرعة، كما جاء في الحديث النبوي: (أطِبْ كَسبَكَ تُستَجَبْ دَعوَتُكَ، فإنَّ الرّجلَ يَرفَعُ اللُّقْمَةَ إلى فيهِ حَراما فما تُستَجابُ له دَعوَةٌ أربَعينَ يوما) بحار الأنوار للمجلسي: 93 / 358 / 16.
ويا ليت شعري تقف تداعيات لقمة الحرام على ما ذكر، بل إنها تهدم وتقوّض كل ما يشيده العبد من عبادات وأعمال يخيّل إليه أنها صالحة، ولكنها في الواقع تكون وبالا على صاحبها لا يجني منها سوى المتاعب والمصاعب، ولربما يؤثر ذلك حتى بعلاقته مع زوجته وما يؤول إليها من عيشة نكدة تعتريها علاقات مريبة مع الزوجة والأطفال وما يترتّب عليها من سوء تربية وانحطاط وتشرذم كانت نتائج طبيعية لامتزاج لقمة الحرام بالجسم وترك تلك البصمات الدنيئة على الروح، يقول الامامُ الباقرٌ عليه السلام في هذا المضمار: (انَّ الرّجُلَ إذا أصابَ مالاً مِن حَرامٍ لَم يُقْبَلْ مِنهُ حَجُّ ولا عُمْرَةٌ ولا صِلَةُ رَحِمٍ حتّى أنّه يَفْسُدُ فيهِ الفَرْجُ) أمالي الطوسيّ: 680 / 1447. وأفضل طريقة لتخليص النفس من تلك التبعات المهلكة للقمة الحرام استبدالها بلقمة الحلال لكي تتحوّل النقمة إلى نعمة، ولا يكون ذلك إلا بتقصّي سبل الحلال في استحصال اللقمة لكي ينأى الانسان بنفسه وأهله وأطفاله من تداعيات لقمة الحرام المهلكة إلى ظلال لقمة الحلال الوارفة.