لولا هشاشة الأرض التي نقف عليها، ولولا الجهل الديني الذي يلف الكثير من شرائح مجتمعنا ولا سيما الشباب منهم، ولولا تقصير الطبقة المثقفة في إيصال الفكر النير الى القلوب الوالهة، ولولا عبث العابثين وزيف المتملقين وتربص المتربصين وحياكة المتزلفين، لما ترعرعت الحركات المنحرفة في أوساطنا، وهي تيارات فكرية أو دينية أو سياسية خرجت عن المبادئ الإسلامية الأصيلة، وشكّلت تهديدا للهوية الدينية والثقافية للمجتمعات، خصوصا في العصر الحديث، وانه لأمر جلل، يستدعي منّا أن نقف ازاءه بكل تصميم ومسؤولية وصرامة، لوقف النزف وتضميد الجرح وتزويد الجسد الإسلامي بأمصال الثقافة الإسلامية الأصيلة، للحؤول دون توغل تلك الآفة الى أعماق الجسد وشلّه نهائيا، فاكتشاف السرطان في مراحله الأولى يمنح فرصة أكبر للشفاء التام، بينما إذا انتشر السرطان، قد يصبح العلاج مجرد وسيلة للسيطرة عليه بدلاً من الشفاء الكامل، ولكي نحصّن الأمة من هذه الحركات، لابد من وضع منهج اصلاح متكامل للتعرف على تلك الحركات أولا ومعالجتها ثانيا ووضع البديل المقنع إزاء تداعياتها الخطيرة ثالثا.
حذار من الحركات المنحرفة:
وفي هذه الورقة البحثية إليك أبرز ملامح هذه الحركات المنحرفة وكيفية بث أفكارها وطريقة استغلالها الدين؛ لبث أفكارها المسمومة باسم المدنية والتطور والازدهار، وهي بذلك تدس السم بالعسل، وتتصيد بالماء العكر، وكل من يقع في شباكها وشراكها فانه لا محالة يعاني من غبش فكري أو سطحية في التفكير، ويمكن حصرها بالحركات التالية:
1ـ الحركات التكفيرية: هي مجموعات تتبع عقيدة تتضمن إصدار أحكام بالكفر على أفراد أو جماعات أخرى، وتستخدم التكفير كأداة لتبرير العنف والقتل والتفجير ضد المسلمين الذين يخالفونهم، هذه الحركات غالباً ما تؤمن بأن من لا يطبق رؤيتها الخاصة للدين أو لا يؤيد حكامهم يعتبر كافراً خارجا عن الدين والملّة، مثل داعش والقاعدة وغيرها التي تقوم على مبدأ تكفير المسلمين المخالفين، وتستند إلى فكر متشدّد بعيد كل البعد عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) في الإصلاح والاعتدال والحكمة والموعظة الحسنة.
2ـ الحركات الصوفية المتطرفة: يرى الكثيرون أن التصوف في جوهره ليس متطرفا، بل هو منهج روحي إسلامي معتدل، ومع ذلك، يُمكن تفسير "التطرف" في هذا السياق على أنه جماعات تسعى للتحوّل السياسي أو تتبنّى أفكارا متشدّدة تخرج عن الإطار المعتدل للتصوف، وغالبا ما يتم استخدام هذا المصطلح لوصف الجماعات التي تستغل المبادئ الصوفية لأغراض غير روحية أو سياسية، أو أولئك الذين ينسبون إلى التصوف ممارسات بدعية تُعارض الفكر الإسلامي التقليدي، تنحرف ببعض المعتقدات إلى الغلوّ في الأولياء أو الفناء الكلّي في الذات الإلهية، وهو ما يسمى عندهم بقاعدة "الحلول".
3ـ الحركات المهدوية الكاذبة: حصل في العالم الإسلامي الكثير من الدعوات الكاذبة المنتحلة لأمر المهدوية منذ الغيبة حتى يومنا هذا، وهذا دليلٌ على أن فكرة الإمام المهدي وقضيته مرتكزة في أذهان أبناء الأمة في كل التاريخ إلى الدرجة التي حاول وما زال الكاذبون أن يستغلوا هذا الأمر ويقدموا أنفسهم بعنوان أنهم يمثلون الإمام عجل الله فرجه، وهي عبارة عن أفراد أو جماعات تدّعي الاتصال بالإمام المهدي (عج) أو تدّعي المهدوية، تستغل العاطفة الدينية لتحقيق أهداف دنيوية.
4ـ الحركات النسوية المتطرفة: تهاجم الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة تحت عنوان الحرية والمساواة، تروّج لفصل الدين عن قضايا الأسرة، وهي حركات مشبوهة ترتبط بالثقافة الغربية تستغل عواطف وشهوات الشباب في انتشار التحلل وتحطيم الأسرة وترويج البديل الغربي الذي يهدف الى دحض القيم والمقدسات وغرس الرذيلة في أوساط المجتمعات الإسلامية.
5ـ الحركات الدينية السياسية: تارة تكون مبنية على أسس صحيحة وتسعى لأقامه الدولة الإسلامية الكريمة، وأخرى تتخذ من الإسلام وسيلة للوصول الى غاياتها الدنيئة، وان القسم الثاني غالبا ما يتلقى دعما خارجيا لتفتيت المجتمع عقائديا، وربط الدين بمصالح سياسية أو استخباراتية.
6ـ الحركات الإلحادية واللادينية: الإلحاد يرفض الإيمان بوجود الإله أو يؤكد على عدم وجوده بشكل صريح، والحركات الالحادية تروّج لإنكار وجود الله أو التشكيك في الأديان، تنتشر غالبا بين الشباب عبر وسائل التواصل والتعليم المادي.
هذه الحركات تُضعف الوعي الديني، وتُحدث فوضى فكرية، لذا من الضروري مواجهتها بـنشر الوعي العقائدي الأصيل، والتمسك بالقرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، وتعزيز الفكر النقدي والروحي المعتدل، ولا يكون ذلك الا بتحصين الشباب بالمعرفة والقدوة الحسنة، وتطوير الخطاب الديني ليكون عقلانيا وإنسانيا، وإحياء العلاقة بالله عبر الروح والعقل، لا الخوف وحده.
الإلحاد مثالا:
نتناول في بحثنا هذا الحركات الإلحادية المعاصرة لأنها تمثل تحديا فكريا كبيرا في مجتمعاتنا، حيث تسعى إلى نفي وجود الله وإنكار الأديان، وتروّج لما يسمّى بـ"العقلانية المطلقة" أو "العلمانية الجذرية" والعقلانية المطلقة هي فكرة فلسفية تفترض وجود عقلانية كاملة وغير محدودة يمكنها إدراك الواقع كحقائق يمكن للعقل استيعابها مباشرة، وغالباً ما ترتبط بالقدرة على التفكير المنطقي الخالي من التأثيرات العاطفية أو التحيزات، ومع ذلك يرى العديد من المفكرين أن العقلانية المطلقة في السلوك البشري هي وهم، حيث أن القرارات تتأثر دائماً بالعواطف، والتحيزات، والمحدودية المعرفية، والظروف المحيطة.
أما العلمانية الجذرية هي مبدأ فصل الدين عن الدولة والمجتمع، مع تركيزها على العلوم والمنطق والعقل كمصدر للحقيقة والمعرفة، وتقوم على فصل الدين عن جميع مجالات الحياة العامة مثل التعليم والأخلاق والقانون، وتُعدّ العلمانية في جوهرها ثورة فكرية أدت إلى ظهور مفاهيم جديدة حول الأخلاق والقيم الإنسانية التي تستند إلى المسؤولية الفردية والعواقب العملية للقرارات، مما يسهم في بناء مجتمع يقوم على المواطنة والمساواة بغض النظر عن الانتماءات الدينية.
أهم الأفكار التي يروّج لها الإلحاد هي انه لا وجود لخالق، والكون وُجد صدفة، وإننا لسنا بحاجة الى دين، انما هو خرافة أو حاجة نفسية للمجتمعات البدائية، والأخلاق نسبية لا تحتاج إلى دين، والحياة تنتهي بالموت، ولا وجود لبعث أو حساب، هذه أهم المرتكزات التي يعتمد عليها الالحاد، وسبب انتشار هذه الأفكار الهدامة في المجتمعات الإسلامية.
1ـ سوء تمثيل الدين بسبب ممارسات متشددة أو خاطئة باسم الدين، وخلط الدين بالمنافع السياسة أو المصالح الشخصية.
2ـ الفوضى الفكرية والإعلامية حيث ان الكثير من منصات التواصل تنشر شبهات بلا رقابة، يساعد ذلك الإعلام العالمي الذي يربط الدين بالتخلّف والعنف.
3ـ الجهل بالدين يتمحور حول ضعف التربية العقائدية والفكرية، وعدم فهم الدين بمنهج عقلاني وروحي متكامل.
4ـ التأثر بالثقافة الغربية خاصة فكرة استقلال الإنسان عن الغيب، والإعجاب بالعلم والتكنولوجيا بدون فهم فلسفتها.
الرد العلمي على الإلحاد:
الردّ على الأسباب الكامنة التي تقف وراء التفاف بعض المغرر بهم حول هذه الشعارات الزائفة، يتمحور حول تكاملية العقل والشرع وطالما نجد في أدبيات مذهب أهل البيت (ع) أن الإيمان يترسخ عبر العقل قبل النقل، أما الدليل العقلي على وجود الخالق، فالنظام الذي يحكم الكون والعلّية والبديهة العقلية تنفي الصدفة، والحكمة من وجود الدين تزكية النفس، بناء المجتمع، وتحقيق العدالة والكرامة، واذا ما تحصنا بالتكاملية العقلية والنقلية فان الشبهات تُزال بالحوار والمعرفة، علما ان الكثير من الإلحاد سببه يرجع الى جهل أو صدمة، لا قناعة راسخة، ومواجهته تتطلب أسلوبا علميا وعقلانيا وروحيا، لا فقط ردودا تقليدية أو عاطفية، وإليك الخطوات الأساسية لمواجهة الإلحاد المعاصر، خاصة من منظور إسلامي أصيل:
1ـ الدليل العقلي في العقيدة هو استخدام العقل في إثبات وجود الله وصفاته من خلال النظر إلى آثار الحكمة والقدرة في الكون، والتنزيه والتقديس عن أي نقص، بالإضافة إلى الاعتماد على العقل كأداة لفهم الدين، وهو ما يشير إليه حديث عن معرفة الله عن طريق الدلالات والأعلام التي تدل عليه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (جدّ الملائكة واجتهدوا في طاعة الله بالعقل، وجدّ المؤمنون من بني آدم واجتهدوا في طاعة الله على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله أوفرهم عقلا) العقل والجهل في الكتاب والسنة - محمد الريشهري - ص ١٠٦. أهل البيت (عليهم السلام) شجّعوا على استخدام العقل لفهم التوحيد والنبوة والمعاد، ويجب ترسيخ أدلة وجود الله وبطلان الصدفة والطبيعة العمياء، وذلك بتعليم الشباب المعرفة الإلهية المبسطة منذ المراحل الأولى.
2ـ تصحيح صورة الدين، فالإلحاد أحيانا رد فعل على دين مُشوَّه أو سلوك ديني منحرف، وعليه يجب إظهار الإسلام كدين رحمة وعدالة وعقلانية، وذلك بالتركيز على قدوة النبي وأهل البيت (عليهم السلام) في الأخلاق والعدالة.
3ـ تقديم الدين بلغة العصر عبر استخدام الوسائل الحديثة بلغة مفهومة، وعدم الاكتفاء بالنصوص، بل ربطها بالواقع والإنسان.
4ـ الحوار لا التهجم فالكثير من الملحدين باحثون عن إجابات لا أعداء لله، ولا يتم التعامل معهم الا بفتح باب الحوار الهادئ وهو أنجع من التبديع أو الطرد.
5ـ دعم المتخصصين من علماء الدين الذين يجمعون بين الشرع والفكر الحديث، وربط الشباب بمراكز علمية تُجيب على الشبهات بالأدلة المنطقية.
6ـ تحصين المجتمع أسريا وتربويا وذلك ببناء هوية متوازنة بين الدين والعلم والحياة، وتقوية العلاقة الروحية مع الله، لا مجرد الطقوس.
شبهات وردود:
إليك أهم الشبهات الإلحادية الشائعة اليوم، والتي تنتشر بين الشباب عبر وسائل التواصل، مع إشارات سريعة لطبيعة الرد عليها:
1ـ شبهة: "لا يوجد دليل علمي على وجود الله" الرد عليها ان الله ليس مادة حتى يُرصد بأدوات العلم التجريبي، فوجود الله يُثبت بالعقل والفطرة، لا بالمجهر، حتى العلم يفترض قوانين غير مرئية (مثل الجاذبية والوعي) فغياب الرؤية لا يعني عدم الوجود.
2ـ شبهة: "الشرور في العالم تُثبت عدم وجود إله رحيم" الرد: وجود الشر لا ينفي وجود الله، بل يدل على وجود الاختيار، والشر جزء من امتحان الحياة، وكثير من الشرور ظاهرها سيء، لكن فيها مآلات تربوية أو تكوينية.
3ـ شبهة: "الدين سبب الحروب والدماء" الرد: أكثر الحروب الحديثة (العالمية، النووية) كانت بقيادة أنظمة إلحادية أو مادية، فالمشكلة في استغلال الدين، لا في الدين نفسه، والإسلام الحق يرفض القتل والظلم بوضوح.
4ـ شبهة: "العلم يغني عن الدين" الرد: العلم يشرح "كيف"، والدين يجيب عن "لماذا" الدين يُنظّم الأخلاق، الغاية، المصير، الروح، العقل لا يغني عن الوحي، بل يتكامل معه.
5ـ شبهة: "تعارض الدين مع الحرية الشخصية" الرد: الدين لا يُلغي الحرية، بل يُقنّنها لحماية النفس والمجتمع، وكل نظام في العالم يفرض قيودا (قانونية أو أخلاقية).
6ـ شبهة: "الدين خرافة من اختراع الإنسان القديم" الرد: لو كان اختراعا، لما اتفقت عليه مختلف الشعوب والفترات، والكتب السماوية تحتوي من المعاني والأنظمة ما يفوق قدرة البشر الأوائل.
7ـ شبهة: "الدين قيّد حرية المرأة واجحف حقها في الميراث" الرد: الإسلام صان حرمة وكرامة المرأة، وانه بالحجاب قد حافظ عليها من ضعاف النفوس، كالصدف الذي يحافظ على اللؤلؤ من المخاطر، أما الميراث فان حقها في النصف الخالص لها أعلى من حق الرجل الكامل الذي تشترك هي وأطفالها معه في الانفاق الواجب عليه.
تكاملية العقل والشرع:
تكاملية العقل والشرع في الفكر الديني تعني أن العقل والنقل (الوحي) لا يتعارضان، بل يكملان بعضهما البعض، العقل هو أداة لفهم النصوص الدينية، وتأكيد صحتها، واستيعاب معناها، بينما يوجه الشرع العقل ويرشده، ولا يمكن للعقل أن يفهم أو يطبق الشرع بشكل كامل بدون الهداية الإلهية.
العقل كأداة هو المصباح الذي ينير الطريق لفهم الشرع، ويساعد على إدراك المعاني العميقة للوحي الإلهي، والشرع كدليل هو الموجه للعقل، ويحتوي على الحقائق التي يدركها العقل ويستخدمها، أما التكاملية في العمل التي نتوخاها فإنها وبدون العقل، لا يمكن فهم الشرع وتطبيقه، وبدون الشرع، قد يضل العقل أو يقع في الخطأ، لذلك يتطلب الموقف السليم تضافر العقل والشرع معاً، فالعقل هو أساس الإيمان، وأداة رئيسية للمؤمن، ومفتاح لفهم الخير كله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لكل شئ دعامة، ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربه) بحار الانوار للمجلسي: 1 / 96 / 42.