الفعاليات الثقافية والفكرية ليست ترفا، بل ضرورة عقلية في زمن الانفتاح غير المنضبط، وهي من أهم أدوات حماية العقول وتحصين المجتمعات، ومن نافلة القول اننا بحاجة الى أدوات متطورة في الطرح والأسلوب والتقنيات لمواجهة الغول الثقافي الذي يحاول جاهدا الانقضاض على موروثنا الفكري، وهو أقرب الينا من حبل الوريد، وإذا ما حاولنا جاهدين ابعاده وطرح البديل، فانه لا محالة ينقضّ علينا عاجلا أو آجلا، ولات حين مندم، ولكيلا لا ندخل في مضمار الضياع والندامة، علينا ان نفكر مليا كيف نواجه ذلك التحدي؟
وما هي الأسس في البناء النفسي والعقائدي في المجتمع؟ وما هي المناهج القادرة على التحصين الفكري والمواجهة الحضارية لتلك التحديات القائمة؟ كل تلك الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها بهذه المطارحة العقلية والأخلاقية التي باتت ضرورية لكل من يهمه النهوض بواقع المجتمع وعلى كافة المستويات.
كيف نواجه الفوضى الفكرية في مواقع التواصل؟
لكيلا نقف أمام الاطلال نادمين حاسرين خائبين فان ممثل المرجعية الدينية العليا سماحة السيد أحمد الصافي وضع النقاط على الحروف عند لقائه وفدا من مرقد السيدة الشريفة بنت الإمام الحسن (عليه السلام)، يوم السبت، 25 مايو 2024م. وحثّ على "جعل المزار منارا للعلم والثقافة والفكر الأصيل عبر انجاز المشاريع والبرامج الثقافية والدينية بالسرعة الممكنة لبث الوعي المجتمعي للزائرين عموماً، وأهالي مدينة الحلّة خصوصاً، والتوجّه لبناء قاعةٍ كبرى لاحتضان الفعّاليات الثقافية والدينية والإعلامية للمزار، لمواجهة الفوضى الفكرية، والشبهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي".
الفعاليات الثقافية تُعد من أهم الأدوات التي تتصدى للفوضى الفكرية المنتشرة في كثير من المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل، خاصة في ظل ضعف التمحيص وكثرة المعلومات غير الموثوقة، ولكي نكون بمستوى عال من التحديات لمواجهة الغول الثقافي المتغلغل في أوساطنا جميعا، علينا وقبل كل شيء تعزيز الوعي النقدي في المجتمع ولا سيما في أوساط الشباب، ولا يكون ذلك الا بتصدي النخبة من خلال القاء المحاضرات والندوات وورش العمل؛ لتنمية ملكة التمييز بين الفكر الأصيل والدخيل، وتُعوِّد المشاركين على السؤال والمراجعة وعدم الانسياق الأعمى.
نعم انها ضرورة لابد منها وهي نشر البديل الهادف بدلا من ترك الساحة للفكر السطحي أو المنحرف، لتقديم محتوى معرفي متوازن، أصيل، ومتجدد، تمهيدا للمساعدة في بناء الهوية الفكرية، وتعزيزا للانتماء الواعي في الفكر الإسلامي الأصيل، خصوصا عند الشباب، مما يقيهم من التشتت والتيه الفكري.
نحن بحاجة الى التصحيح والمواجهة العلمية، ولا يكون ذلك الا من خلال توفير منصات للرد العلمي على الشبهات المنتشرة، يديرها أصحاب الاختصاص والخبرة والكفاءة العلمية والتقنية، دون تشنج أو انفعال، بل بالحجة والدليل والبرهان، ولكي ننجح في مسعانا هذا علينا خلق بيئة تفاعلية ناضجة، من خلال الحوار المفتوح، الذي يسهم في خلق مناخ ثقافي راقٍ يواجه التطرف والانغلاق.
المساهمة في البناء النفسي والعقائدي للمجتمع
شدّد السيد الصافي على الحصانة الفكرية لمواجهة تلك التحديات، والمرحلة التي نعيشها اليوم ليست فسحة للتنزه، بل انها المنازلة المصيرية في وقتنا الراهن، وهي "ضرورة لابد من البدء بها سريعاً بكلّ ما يخدم فكر المجتمع وحمايته من الهجمات الثقافية التي تضرّ بهويته، ومن الضروري تهيئة عناصر بشريّة تساهم في البناء الفكري والعقائدي للمجتمع، على جانبين: الأوّل النفسي والاجتماعي الأكاديمي، والآخر الديني العقائدي والفقهي، مع ضرورة تدريب وتهيئة ملاكاتٍ تخصّصية تديم تلك النشاطات".
تهيئة عناصر بشرية تساهم في البناء الفكري والعقائدي للمجتمع هي عملية استراتيجية تهدف إلى إعداد أفراد يمتلكون وعيا راسخا، وثقافة ناضجة، وفهما عميقا للدين والعقيدة، ليكونوا قادرين على المساهمة في نهضة المجتمع وتحصينه من الانحرافات الفكرية، وأبرز مقومات التهيئة:
1ـ التعليم العقائدي المنهجي، وذلك بتأسيس مراكز ومعاهد تدرّس العقيدة وفق منهج أهل البيت (عليهم السلام) بأسلوب علمي وعقلاني، وإدماج الفكر الإسلامي الأصيل في المناهج التربوية.
2ـ إعداد كوادر تثقيفية من خلال تدريب خطباء، معلّمين، مثقفين، ومؤثرين يمتلكون لغة العصر ووسائل التواصل، وبناء شخصيات متوازنة تمثل الإسلام الأصيل قولا وفعلا.
3ـ التحصين الثقافي والإعلامي عن طريق تهيئة عناصر قادرة على مواجهة الشبهات والانحرافات العقائدية والفكرية المنتشرة في الإعلام الرقمي، ودعم إنتاج المحتوى العقائدي الهادف.
4ـ القدوة العملية لا تكون الا من خلال غرس الأخلاق الرسالية، والتقوى، وحبّ الحق في العناصر المؤهّلة، ليكونوا قدوة للناس.
5ـ الربط الواعي بالمرجعية والحوزة وهو تأصيل العلاقة بين هذه العناصر والقيادات الدينية والعلمية، لتكون حركتهم منضبطة وموثوقة.
وإذا ما كرسنا مقومات النجاح فأننا وبكل تأكيد قادرون على بناء مجتمع متماسك عقائديا وفكريا، وهو بلا شك يبدأ من تهيئة النواة الصالحة الواعية، القادرة على نشر الحق، وصدّ الفوضى، وإحياء قيم الدين في الواقع الاجتماعي، وهذه هي سبل النجاح لكل مشروع هادف.
ولكي يتأصّل ذلك المشروع علينا الاهتمام بالجانب النفسي والاجتماعي وهو ركن أساسي في بناء الإنسان المتوازن، ويُعد من متطلبات النهضة الفردية والمجتمعية، لأنه ينعكس بشكل مباشر على السلوك، والعلاقات، والاستقرار العام.
فالجانب النفسي يهدف إلى تحقيق التوازن الداخلي، والسكينة، والثقة بالنفس، والوقاية من القلق، والاكتئاب، والانهيارات النفسية، ويساعد كذلك على اتخاذ قرارات صحيحة، وتحمّل الضغوط، والتفاعل الإيجابي مع الأزمات.
أما الجانب الاجتماعي فهو يُعنى ببناء علاقات إنسانية قائمة على الاحترام والتعاون، وتعزيز الانتماء، والتقليل من العزلة، وتنمية روح الجماعة، وفي النهاية يساعد على التفاعل مع المجتمع بإيجابية، ويسهم في حل مشكلاته بكل اريحية، وهذا ما نراه جليا في فكر أهل البيت (عليهم السلام) اذ انهم ربطوا بين سلامة النفس وحُسن الخلق، وأكدوا على أهمية صلة الرحم، والإحسان إلى الناس وتفقد أحوالهم، وان لا تؤثر نوب الزمان على عزيمتهم واصرارهم على تحدي الصعاب، قال الإمام علي (ع): (المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ - ص ٢٠٦. المؤمن يظهر السرور والطلاقة في وجهه، بينما يخفي حزنه العميق في قلبه، وهو دليل على قوة تحمله للتحديات ورغبته في كتمان ما يشغله عن الناس، هذه الصفة تتجلى في تواضع المؤمن، وتركيزه على شؤون اصلاح الناس في الدارين ولا يكون ذلك الا بالعمل الدؤوب الصامت والانشغال بالعبادة والتفكر في ذات الله واسعاد الأخرين، وهو بذلك يتحصن بالحلم والصبر على أقدار الله ومتاعب الحياة.
بناء الإنسان لا يكتمل دون رعاية نفسيته، وتدريب روحه، وتحسين علاقاته الاجتماعية، وقبل كل ذلك توثيق صلته بالله تعالى، فالمجتمع المتماسك يبدأ من أفراد أتقياء روحيا، أصحاء نفسيا، متواصلين اجتماعيا، يعاملون الجميع بكل احترام ومودة ورحمة.
ولكي يترسخ الجانب النفسي والاجتماعي في النفس لابد من الاهتمام البالغ بالجانب الديني والعقائدي الذي يُعد من الأسس الجوهرية في بناء شخصية الإنسان المؤمن، وتحصينه فكريا وأخلاقيا، وضمان استقامته في سلوكه الفردي والاجتماعي، فالعقيدة تمنح الإنسان انتماء راسخا، وتحدد له هدف الحياة ومصيرها، وتبني قناعات ثابتة في زمن التقلّبات الفكرية والانحرافات العقدية.
ولكي نضمن السلوك المستقيم، لابد ان نتبنّى الدين منهجا وسلوكا، فالدين ليس مجرد طقوس، بل منظومة سلوكية تهذّب الأخلاق وتوجّه الفعل، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدقه الأعمال) بحار الانوار للمجلسي: ٦٩ / ٧٢ / ٢٦. الفهم الصحيح للعقيدة يحمي من الشبهات، والإلحاد، والغلو، والتطرف، ومن يملك قاعدة عقائدية متينة، يكون أقدر على الصبر، والمقاومة، والاختيار الواعي، وهذا لا يكون الا من خلال الارتباط بالإمام المعصوم (عليه السلام)، فالعقيدة الصحيحة تُرسّخ الإيمان بالإمامة، والتمسك بالنهج المحمدي الأصيل، وهو ما نراه جليا في فكر أهل البيت (عليهم السلام) اذ ربطوا صلاح الإنسان بصحة عقيدته، ولا يكون ذلك الا بالتفقه في الدين والتوغل في العقيدة الصحيحة، يقول الإمام الكاظم (عليه السلام): (تفقهوا في دين الله، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا) بحار الانوار للمجلسي: 78 / 321 / 19. الاهتمام بالجانب الديني والعقائدي ليس خيارا، بل ضرورة لبناء الإنسان الرسالي، وتكوين المجتمع الواعي، وحفظ الأجيال من الضياع الفكري والسلوكي.
الاهتمام بنهج البلاغة والصحيفة السجادية لتربية المجتمع
وأشار سماحة السيد الصافي الى اهم منابع الفكر الإسلامي الأصيل وأكد على "أهمية إيصال كلام أهل البيت (عليهم السلام) إلى الناس، ليساعدهم في كلّ أمر ومشكلة تواجههم، فهم (عليهم السلام) رسموا خطوط الحلّ لما يواجهه المجتمع من مشاكل، مع ضرورة الاهتمام بالصحيفة السجادية ونهج البلاغة، كمصدرَينِ مهمّينِ في كلامهم (عليهم السلام) لتربية الفرد والمجتمع".
الاهتمام بنهج البلاغة والصحيفة السجادية يُعد من أرقى الوسائل في تربية المجتمع فكريا وروحيا وأخلاقيا، لأنهما يجسّدان مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في التربية والنهضة، فنهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) مصدر للوعي السياسي والاجتماعي وهو يتناول قضايا الحكم، العدل، الحقوق، ورفع الظلم بأسلوب عميق، علاوة على انه يربي الفرد على التفكير المسؤول، والنقد البنّاء، ورفض الانحراف، وتهذيب الأخلاق والسلوك، وهو يحوي كذلك حكما ومواعظ تُزكّي النفس وتُصلح العلاقات، وتعزز الفكر العقائدي في التوحيد والنبوة والإمامة ببيان عقلي وبلاغي فريد.
أما الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام) فهي بلا شك مدرسة روحية وعقائدية تربّي النفس على التواضع، التوبة، الافتقار إلى الله، والتوكل، والسمة المميزة لتلك الصحيفة إصلاح المجتمع بالدعاء، وفيها أدعية للأهل، الجيران، الحكام، الفقراء، طلب العلم، وأدب السلوك، وهي بذلك حازت على القدح المعلى في تربية وجدانية عالية تهذّب المشاعر وتغذّي القلب بالخوف من عقاب الله تعالى والرجاء من رحمته ولطفه بالعباد.
والأثر التربوي المشترك بين الصحيفة والنهج فانه يرتكز على بناء الإنسان المتكامل عقلا، قلبا، وسلوكا، وهو ضروري في مواجهة الانحرافات الفكرية والأخلاقية بمصادر نقية وعميقة، ريثما نصل الى صناعة وعي دينيّ رساليّ في مواجهة التحديات، وهذا يستدعي جعل نهج البلاغة والصحيفة السجادية في مناهج التعليم، ومنابر التثقيف، وبيوت المؤمنين، وهو استثمار حضاري لبناء جيل يحمل فكرا نقيا، وسلوكا مستقيما، وروحا متصلة بالخير المحض؛ تمهيدا للوصول الى ينابيع الخير ولو بنسبه المتفاوتة.