ضحّى بنفسه وأراق دمه الطاهر من أجل أن تبقى القيم خالدة ويحكم في أوساطنا الدين القيّم بعيدا عن ظلم الأشقياء وفساد الأدعياء، كيف لا أتخذه قدوة ونبراسا وهو الذي أنار مصباح الهداية مضيئا درب الثائرين في كل زمان ومكان؟! كيف لا أفتخر بالانتماء اليه وهو المدافع المستميت عن انسانية الانسان؟! كيف لا يكون متراسا وهو الحصن الحصين للكتاب والعترة، والمجاهد في سبيل الله، والناصح له في جهاد أعدائه، المبالغ في نصرة أوليائه، الذاب عن أحبائه؟! كيف لا يكون حصنا حصينا للدين المحمدي الأصيل وهو الذي بذل الغالي والنفيس من أجل المحافظة على الدين والكرامة والأخلاق الفاضلة؟! إنه ضحّى بمهجته في سبيل رفعة الإنسان وتألّقه في سماء الفضيلة، وكما هو معلوم ان الجود بالنفس أغلى غاية الجود، نعم انه ضحى دفاعا عن القرآن الناطق في زمانه الامام المفترض الطاعة الحسين بن علي عليه السلام، ويا لها من تضحية قيمية رشيدة، ويا لها من ثيمة مقدسة تضفي على مؤسسها وناصريه قداسة الوجود، بل انه بلغ الذروة في التسليم والتصديق والوفاء والنصيحة للقرآن والعترة والامام! وبقدر تلك الذروة كان ضريحه شامخا بشموخه، وعطاؤه متلألئا بضياء الكرامة والعزة والإباء، إنه العباس وكفى!
حينما نتكلم عن العباس فإننا نتكلم عن النصيحة لله تعالى، والنصيحة للرسول الأعظم، والنصيحة للإمام الحسين عليه السلام، إنه نصح لله تعالى بالتزام أوامره وترك نواهيه، وضحى بنفسه في سبيل ذلك تحت لواء امام زمانه الحسين عليه السلام، فنعم الأخ المواسي لأخيه، ويا لها من نصيحة مضمخة بالدماء؛ لأجل أن نحيا وتحيا بها مبادؤنا وأخلاقنا وحياتنا الطيبة، لماذا صار نبراسا؟! صار نبراسا لأنه جعل من نفسه متراسا كي يقينا سهام ابليس وجنوده، ويحفظ كرامتنا بدمه الطاهر، يا له من جهاد لا يعرف الكلل والملل ولا يخضع للوهن والنكول، بل انه وبكل رباطة جأش مضى على بصيرة من أمره مقتديا بالصالحين، ومتبعا للنبيين، وكرامة له على هذا الموقف النبيل جمع الله تعالى بينه وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين المطمئنين الراضين بقضاء الله وقدره، المستسلمين له في السراء والضراء وحين البأس، وحسن أولئك رفيقا.
الأنس بين القرآن الكريم والعباس بن علي لم يكن مقتصرا في حياته، بل امتد بعد استشهاده لينبثق من بين ثنايا ضريحه المبارك، المجمَع العلميّ للقرآن الكريم في العتبة العبّاسيّة المقدّسة، وهو صرحٌ قرآنيّ مبارك، حمل بين طياته رسالة مقدّسة، وهي رسالة تعليم القرآن الكريم، ويرعى هذا المجمع جميع الفعاليات والنشاطات والمسابقات القرآنية في العراق وخارجه، ومن أجل رفده بالكوادر العلمية المتخصصة في علوم القرآن وتلاوته وحفظه، قام المجمع بإنشاء الكثير من المدارس والمعاهد والدورات ومن ضمنها (معهد القرآن الكريم) وهو أول معهد متخصص في الدراسات والبحوث القرآنية، وأخذ على عاتقه نشر العلوم القرآنيّة والمساهمة في إعدادِ مجتمعٍ قرآنيّ فاعل، في جميع مجالات القرآن الكريم وعلومه، واهم مواصفات المعهد انه:
*يحتوي على عدة فروع في تسع محافظات وهي كل من كربلاء المقدسة، البصرة، ذي قار، ميسان، المثنى، واسط، الديوانية، بابل، النجف الأشرف.
*اقامة العديد من البحوث والدّراسات القرآنيّة فضلا عن طبع المصحف الشريف وإصدار الكتب وإقامة الختمات والمحافل والأماسي القرآنيّة التي حضرها عدد من القرّاء الكبار وعلى مستوى دوليّ.
*إقامة الكثير من الدّورات القرآنيّة كان أبرزها دورة (الكفيل الأولى والثّانية) ودورات أخرى أحداها لمنتسبي العتبة العبّاسيّة المقدّسة والثانية لمعلّمي التّربية الإسلاميّة وحلقات لتعليم الزائرين الكرام، ودورات قرآنيّة وتثقيفية لطلبة الجامعات والمعاهد العراقيّة من مختلف محافظات العراق.
*فتح الدورات الصّيفيّة للطلبة والطالبات من المراحل الدّراسية الابتدائية والمتوسطة والاعدادية، اضافةً الى العديد من المشاريع القرآنيّة المميّزة كان أهمها (المشروع الوطنيّ) لإعداد القرّاء في العراق والمسابقة الفرقيّة الوطنيّة الأولى ومشروع (أمير القرّاء الوطنيّ الأول).
ولاتساع رقعة الثقافة القرآنية المباركة لتشمل جميع الشرائح في المجتمع، تم افتتاح (معهد القرآن الكريم النسوي) وهو معهد نسوي علمي خاص بالقرآن الكريم تابع للعتبة العباسية المقدسة، الهدف منه:
*نشر العلوم الدينية في الوسط النسويّ وفي مقدّمتها (العلوم القرآنية) والمساهمة في إعدادِ جيلٍ نسويٍّ قرآني فاعل يُحيي سنّة الإقراء والبحث العلمي في كافة مجالات القرآن وعلومه.
*يهدف الى تعليم كتاب الله وعلومه والعمل على خلق حالةٍ من الترابط بين الدارسين بكتاب الله عزّ وجلّ اعتقاداً وقولاً وعملا وأخذاً بأخلاقه وآدابه، والمساهمة في الدعوة الى الله تعالى وفق كتابه الكريم وسنّة نبيّه وآل بيته (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام).
*توجيه الفتيات المؤمنات وتعبئتِهِنّ فكرياً في أصول وأخلاق وآداب الإسلام وأحكامه، ووفق أطر ومنهج أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
الملاحظ انه تم اعتماد منهج قرآني متكامل ومشابه لما معمولٌ به في المعاهد القرآنية، يشمل أحكام التجويد وقواعد التلاوة والتفسير والحفظ، مع إضافة بعض المناهج الإثرائية، وتُقبل في هذا المعهد النساءُ ذوات المستوى العالي من الذكاء والتعلّم، أو من اللواتي لهنّ طاقات ذهنية وقّادة، وحَسِنات السيرة والسلوك والالتزام الديني والأخلاقي، ويكون القبولُ مصنّفاً حسب الأعمار والمستويات الدراسية، ويعتبر منهج المعهد نموذجياً ويكون على مراحل:
المرحلة التمهيدية تتمثّل بالقراءة البسيطة للطالبة المتقدّمة، بعد ذلك يتمّ الانتقال الى المرحلة الأولى المتمثّلة بأحكام التجويد، بعد ذلك يتم اختبارها لمعرفة مدى تعلّمها، بعد ذلك تنتقل الى المرحلة الثانية وهي مرحلة الحفظ والتفسير للقرآن الكريم، وتمنح المتخرّجة شهادة من معهد القرآن الكريم، وفي حالة تخرّج المتدرّبة ولم تكن بالمستوى المطلوب تخضع لدورة سريعة.
يهدف المجمَع العلميّ للقرآن الكريم عبر نشاطاته القرآنيّة المتنوّعة، إلى تعزيز تلاوة كتاب الله الكريم، والترويج لقيمه الإيمانيّة والثقافيّة حول العالم، ومن اجل تكريس ثقافة القرآن قراءة وفهما وتفسيرا، التقى المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسيّة المقدّسة السيّد أحمد الصافي اللّجنة التحكيميّة لمسابقةِ جائزة العميد الدوليّة لتلاوة القرآن الكريم، يوم الثلاثاء، 19 مارس 2024م وينظّم المسابقة المجمَع العلميّ للقرآن الكريم في العتبة العبّاسيّة المقدّسة.
واستمع السيّد الصافي لشرحٍ من أعضاء اللّجنة عن الآلية المتّبعة في التحكيم، ومستويات المشاركين القرآنية، وما أفضت عنها مراحل المسابقة.
وأكّد السيّد الصافي على إشاعة الثقافة القرآنية وترسيخها عبر المسابقة، وفتح ميادين للتنافس الإيجابي، والتباري من أجل الارتقاء بمستويات القرّاء، فهو هدف المسابقة الأهم.
ودعا السيّد الصافي إلى إبداء النصح للمشاركين؛ للمساهمة بتطوير أدائهم القرآني والرقي به، كما حثّ أعضاء اللّجنة التحكيميّة في مسابقة العميد على تطبيق المعايير الدوليّة المعتمدة في هذا المضمار.
وأشاد المتولّي الشرعي للعتبة العبّاسيّة المقدّسة بعمل اللّجنة التحكيميّة وما بذلته من جهدٍ لإنجاح فقرات المسابقة.
وتُعدّ مسابقة العميد الدوليّة لتلاوة القرآن الكريم، هي الأولى من نوعها على مستوى العراق، وشارك فيها متسابقون من (21) دولةً عربيّةً وأجنبيّة، وبثت عَبرَ فضائيّات محليّة عدّة بضمنها قناة العراقيّة، مع ٣ فضائيّات عربيّة، وهذا العطاء القرآني المتميز نتاج الجهود المضنية التي يبذلها المجمع العلميّ للقرآن الكريم في العتبة العبّاسيّة المقدّسة، التي هي غيض من فيض مما يقوم به من نشاطات قرآنية منبثقة من ضريح حامل لواء القرآن والعترة أبي الفضل العباس، الذي أرسى باستشهاده لواء القرآن والعترة خفاقا عاليا على مر الدهور والأزمان.